للشارع الذي كنا نقطن فيه قرب "جامع القصر" مميزات كثيرة، منها وجود سوق الفستق و وجود مسبح "النمري" الذي تعلّم كل أطفال الحارة السباحة فيه، بيني و بينكم المسبح كان بركة "لغسيل الأبقار" لكنه تحوّل لمسبح بأجور منخفضة لتاريخه المعروف و لمساحته الصغيرة و تطرّفه قرب البستان و زبائنه الخاصين من أطفال الحارة الأشقياء.
أما البستان المجاور للمسبح فقد كان يفصل بين بستان القصر و سوق الهال، و يتخلله طريق ترابي مختصر عن الطريق العام الذي يوفّر علينا اكثر من ٢ كم من المشي، و قررنا أنا و #أبو_عبدو_جارنا أن نسلكه في رحلة إلى سوق باب جنين حيث كنا نذهب إلى هناك بشكل دوري كي نشتري احتياجات البيت من الخضار و الفواكه و المونة، أي "نعمل شوبينغ"، إلى أن حصلت الجريمة و التي شهدناها أنا و أبو عبدو و قررنا عدم الاقتراب مرة أخرى من هذا الطريق المشؤوم.
في السادسة و النصف صباحاً نزلت مع #أبو_عبدو_جارنا إلى الحارة و اشترينا "كاستين سحلب" من عند أبو محمد بائع السحلب و بدأنا المشي قاطعين سوق الفستق نحو اليسار ثم إلى الطريق الترابي بين البساتين.
الطريق الترابي كان في أجزاء طويلة منه يحده من الطرفين عيدان طويلة من القصب و الذرة المزروعة فيه، و لا يسمح لنا بكشف ما خلفه داخل البساتين، و كانت نسمات الصيف المنعشة في الصباح تداعب هذه العيدان و اوراقها و تتمايل و تصدر صوت حفيف مميز لا يخرج من الذاكرة بسهولة، لكن بينما كنا في الطريق تخلل صوت الحفيف أصوات أخرى لم نستطع تمييزها، و بدأنا نتمهل في المشي ثم وقفنا سوية دون اتفاق فالأصوات كانت مريبة نسمعها للمرة الأولى، كنت اسمع شهيق ابو عبدو و زفيره و أنفاسي ايضاً و كأنهما أعلى من كل الأصوات من حولنا، و بدأنا بالتهامس:
- أش هالصوت لك أبو فاروق؟
- و الله ما بعرف يا ابو عبدو بس كأنه في حدا عم ينخبط و في صوت حدا عم يتأوه!
- طيب خلينا نمشي بيكون واحد و وحدة عشقانين!
- لا خلينا نتأكد قبل.. لا يكون حدا بدو مساعدة..
الحقيقة تسمرّنا في مكاننا و صرنا نرتجف و لم تبقى أي قصة أو صورة مخيفة إلا و زارت مخيلتي الواسعة، إلى أن سمعنا صوت خطوات قادمة باتجاهنا من خلف المزروعات و تصبب العرق من وجهينا و دقات قلبينا صارت كصوت الطبول، و لدى ثالث خطوة و لا إرادياً قررنا المشي و الهروب و أبو عبدو لشدة خوفه راح باتجاه البيت عائداً بينما اخترت ان امشي باتجاه السوق و افترقنا فجأة و دون سابق انذار دون تردد مسرعين هاربين و نادمٌ كل واحد منا لماذا لم ينتبه الى صاحبه الذي افترق عنه، الخطوات التالية و أنا وحيد كانت أكثر خوفاً و رعباً و كنت أحاول تهدئة نفسي بأن الوهم هو السبب و أن الأمر طبيعي و لن يحدث شيء و فكرة المسدس الذي سيوجهه الخارج من بين العيدان هي من ضرب الخيال، حتى صاح الخارج لي و لابو عبدو:
- وقف ولاك..
تفتحت عيناي بشدة و توقفت دون أن أنظر للخلف لعله لم يرني، و لكنه أكّد : هي أنت ابو الجينز..
نظرت للخلف و إذا به شخص يحمل منجلاً و يلبس "كلابية" لونها ترابي و يضع لثاماً "حطته الحمراء".
اقتربت منه كما فعل أبو عبدو و صرت على يساره و أبو عبدو على يمينه و بصوتٍ مرتجف و أنا أبلع ريقي:
- خير أخوي لازمك شي؟
- أنت من بيت مين ؟ و اش عبتعمل هون؟
- ليش هالأسئلة ؟ هاد طريق كل يوم منجي منه بيتي هون بالحارة و رايح على باب جنين...
- تفضلوا معي عند المعلم ...
- لا الله يديمك مستعجلين و الله ... دي روح أبو عبدو..
- أيوا .. مع بعض يعني.. و كل واحد رايح من طرف ... أي تعا معي أحسن ما تشوف شي ما بيعجبك..
سحبني من خاصرتي و أبو عبدو أيضاً و دخلنا إلى البستان خلف العيدان الطويلة، المنطقة التي لا نعرفها و التي لم نرها مسبقاً، و مشينا فوق الطين و الأتربة و بين المزروعات، بينما كنت أخطط للهروب و أقارن بين نسبة خروجي سالماً و عدم خوفي لاحقاً منهم إذا أكملت معه، و بين هروبي و بقائي خائفاً من تهديدهم لي إن لم يستطع أبو عبدو الهرب و اعترف على مكان بيتي.
وصلنا إلى كوخ قرميدي بابه من الخشب القديم داخل المزرعة، توقفنا هناك و صاح الرجل الملثم: سامي .. يا سامي
حتى خرج من الباب شخص اشقر الشعر يلبس بدلة رسمية جميلة و أنيق الهيئة، كان اختلافه عن المكان فاقعاً لدرجة أنني "فركت عينيّ" و نظرت إليه بتمعّن أكثر من مرة، و هنا قلت بأن العملية أمنيّة و لا بدّ أن هذا ضابط ما يحاول أن ينفذ عملية مخابراتية في البستان للقبض على أحد المجرمين.
غير أنه كان هو المجرم، و الجثة كانت إلى جانبنا مرمية و مغطاة بأحد الأغطية، تحاورنا مع سامي طويلاً ثم تركنا نذهب، اختصاراً للتفاصيل كان الأول هو الأخ الأزعر "ابو علي" الذي يقتل و لا يهتم بالقانون على الإطلاق و لا يخاف لومة لائم، بينما الثاني "سامي" هو المجرم الذي لا يلوّث يديه بالدماء و يحاول أن يجد حججاً قانونية لأي مخالفة أو جريمة يرتكبها، و عرفنا لاحقاً بعد أن استطعنا الخروج و العودة إلى بيوتنا، بأن "سامي" قتل طفلة اسمها "جنى" و تضايق من الموضوع كثيراً، و كان "أبو علي" يسأله كيف قتلت هذه الطفلة أريد تفسيراً لذلك.. يا أبو القانون يا من لا تقتل أحداً، أريد توضيحاً الآن، أعطني توضيحاً.
عدت مع ابو عبدو إلى الحارة، و كما أمرنا مهدّداً "أبو علي" المخيف لم نخبر أحداً بهذه القصة بل حتى لم نتناقش بها أبداً لشدّة الخوف، فهو أكّد لنا بأنه لا يهتم بمعرفة الناس بإجرامه و قتله، فهكذا يخافون منه أكثر و بأنَّ قتلنا عنده أهون من شربة ماء.
و لا زال يعمل أبو علي و أخوه سامي إلى اليوم و يقتلان الناس، أحدهما متخفياً بهيئة انسان و الآخر يقتل دون اهتمام لا بالانسانية و لا بالقوانين و أنا و أبو عبدو ندمنا لأننا لم نحذر الناس منهما جراء خوفنا الزائد.
ما ذكّرني بالقصة رسالة من #أبو_عبدو_جارنا أرسلها لي اليوم على الواتس أب قائلاً إقرأ هالخبر ما بيذكرك بأبو علي و سامي !
توضيح: أَبْلَغَ اليوم الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيغور كوناشينكوف إن موسكو تنتظر من وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" مزيدا من التوضيحات بشأن مقتل عشرات المدنيين في الغارة الجوية على قرية الجينة السورية.
موطن الشاهد: إذا لم تستطع أن تقتل المجرم، فعلى الأقل قل بأنه مجرم و لا تسكت.
الله الله يا جوهري على مذكرات ابو عبدو
ردحذفابو عبدو الجوهري
ردحذف