الاثنين، 20 مارس 2017

قصص أبو عبدو جارنا - دوريّة مداهمة ...(6)

بعد منتصف الليل بينما كان #أبو_عبدو_جارنا قد افترش بلاط الشرفة هارباً من حر البيت الخانق في صيف ٢٠٠٤، و بينما كان يطرد الحشرات القارصة و يبحث عن النعاس الهارب، سمع أصوات فرامل سيارات كثيرة تقف في الحي و تفتح أبوابها و تغلقها، ما أثار ريبته فقفز ليراقب ما الذي يحدث متوقعاً أن تكون إما حالة وفاة أو عرسٌ صامتٌ "على غير عادة سكان الحارة".

مدّ رأسه كالحرباء من خلال مربع صغير مفتوح بين قضبان الحديد "الدربزون" التي تعتلي قرميد الشرفة، و نظر إلى الشارع المعتم إلاّ من ضوء الشارع الأصفر على زاويتها القبلية فوق حاوية الزبالة منبع الحشرات، و رأى منظراً مرعباً مكوناً من كل ما يدفعك للخوف "كسوري أصيل": سيارات أوبل أوميغا عدد ٢ .. سيارة مرسيدس سوداء عدد ١ .. سيارة شرطة حمراء مداهمة عدد١..سيارات جيب أبيض و أخضر "كانوا جديدات خلنج" للأمن الداخلي.. عناصر مخابرات مسلحين يلبسون جواكيتهم الجلدية السوداء في كل مكان..ليتفاجأ أبو عبدو بعد نظرةٍ شاملة لم تطل مدّة ثانيتين بضوء كشاف "بلجكتور" موجه إلى شرفته و قد حوّل الليل إلى نهار و أحد العناصر صاح به : ادخل لجوا ولاك..

نتوء حديدي غرز في رأس أبو عبدو بينما كان يسحب رأسه من بين القضبان، و خلّف جرحاً قال عنه الطبيب في اليوم التالي: كاد أن يصل الجرح إلى الدماغ و قد حفر خندقاً في الجمجمة..... ثمّ ضربه أبرة كزاز.

شعر أبو عبدو بلمعة في رأسه بعد انسلاله السريع من الشباك الحديدي، و وضع يده على جرحه و تحسس الدم و ضمّده على عجل بسروالٍ داخلي كان ملقى على حافة سلة الغسيل الزهرية إلى جانبه، ثم اقترب و هو يتأوّه من حائط الشرفة ليسترق السمع.. بينما أنا كنت عائداً من سهرة "تركس" من بيت ابن عمي "سامر" في الزبدية و وصلت إلى إشارات بستان القصر التي تبعد حوالي خمسة شوارع عن بيتي و وجدت ازدحاماً غير طبيعي في المكان، و دون أن أسأل سمعت القصة من مجموعة شباب تلتها مجموعة من المسنّين الذين وجدوا من الأكشن ما يسلّي سهرة الشارع الاستثنائية.. حتى أن بعضهم كان يأكل البزر و الفستق.. فهمت بأن هناك عصابة محاصرة في الشارع الذي أقطن فيه، أشعلت سيجارة و وقفت أفكّر...

في هذه الأثناء أبو عبدو كان يبكي و هو يظن بأن الحملة تستهدفه و صار يبحث في ثنايا ذاكرته عن "التخبيصات" التي عملها في حياته و كان يحدث نفسه و هو يرتجف:
- معقول لأنه ما قطعت بيليت الباص هديك المرة ؟ عجب لأنه قلت انه لازم ينقلولنا الحاوية من الحارة ؟ لا لا ما معقول ابو احمد يفسفس عليّ.. و الله بيعملها ! هاد اكيد وقت حكينا عن المنتخب و قلتله كل اللعيبة واسطات .. لا هو كمان حكى يعني رجلينا بالفلقة سوا! معناتا وقت نزلت عالشارع وقت المسيرة و مشيت معهن غصب عني كان مبين على ملامحي انه انا مستعجل.. و لي على قامتك يا أبو عبدو... راحت عليك..

توقّفت لأكثر من خمسة دقائق قرب الإشارات بين التجمعات و استمعت إلى الكثير من القصص و لم استطع الاقتراب لأن عناصر الشرطة و المداهمة كانوا يمنعون الناس من الاقتراب من الطوق الأمني المفروض على الحارة، و بالصدفة رأيت "يحيى" صديقي الشرطي، و أخرجت من علبة السجائر واحدة و ألقيت السلام عليه :
- خدلك سيجارة بعرف الوضع سلطة و أنت متوتر.. اهلين أبو اليح..
أخذ السيجارة و بدأ برواية القصة لي دون أن أسأله.. و أخبرني عن كذبة العصابة و لماذا كل هذه الحملة الكبيرة.. و بأنها مستمرة للصباح و نصحني أن أنام خارجاً فلن يسمحوا لأحد بالاقتراب:
- هيك التعليمات يا أبو شريك..

دخل #أبو_عبدو_جارنا إلى البيت و توجه للمطبخ و حمل سكيناً و وضعه على رقبته و هو يبكي و يرتجف، إلى أن انتبهت أم عبدو و دخلت دخلتها الأكشن و هي تركض إليه و تقول: لاااااااااا
السكين تقترب من رقبة أبو عبدو....
أم عبدو تخطو الخطوة الثانية: لااااا
السكين تصل إلى قبته المتسخة بالدم..
أم عبدو تقترب كثيراً: لاااااااااااا
تلامس السكين رقبة أبو عبدو..
أم عبدو تمسك يده بقوّة و هو يستسلم بسهولة و تقول هامسة غاضبة:
- إلا هي السكينة .. إلا هي .. هي ذكرى من أمي بجهيزي.. بكرة بيعتبروها أداة جريمة و بياخدوها..
ترك أبو عبدو السكين و جلس القرفصاء و وضع يديه على وجهه و بدأ يبكي و يشهق دون صوت..

وصلتُ لبيت صديقي أحمد قرب مدرسة "اليرموك المحدثة" و طرقت الباب و بعد أن جلسنا قرب شخير أخيه "أبو الشوق" و
 بدأ حديث الهامس أيضا إذ نام كل أهله:
- بعدين قلي "يحيى الشرطي" أنه في واحد بحارتنا سابب شب صغير بالسوق.. و هاد الشب طلع ابن المحافظ و علق من طيزو الشب ..
- لعمة و ليش ما استدعوه عالمخفر؟ ليش كل هاللوصة و مطوقين الحارة و ما بعرف ايش؟
- يمكن بدو يعمل نمرة رئيس المداهمة.. و مشان يبيض وجه قدام المحافظ بتعرف انت...

خرَجَ أبو عبدو من زاويته و دماؤه قد تجمّدت على يديه و على رأسه، و رائحة الدم تضرب في أنفه، و بدأ يخطو خطوات بطيئة إلى الشرفة بعد أن حلفت له أم عبدو كل الأيمانات ذات العيار الثقيل بأن الشرطة و الأمن قد غادروا و لم يكن هو المطلوب..ثم وضعت له ملعقتين من البن لإيقاف النزيف في رأسه.. و اطمأن أبو عبدو بعد نظرة خاطفة للشارع بأنهم ذهبوا..

وصلت أنا إلى الحي و رأيت أبو عبدو أمام باب المبنى و على رأسه "منشفة" صغيرة فوق جرحه الذي تفوح منه رائحة البن ...و ألقيت عليه السلام و روى لي قصته و رويت قصتي و جاء الاستاذ هشام ملقياً السلام أيضاً و قال:
- شوف شو كان في بالحارة البارحة و نحن ما عم نعرف..
و أعطاني نسخة من جريدة البعث و قرأت العنوان:
"القبض على أخطر عصابة في مدينة حلب، متهمة بالقتل و السرقة و النهب و تجارة المخدرات و الأعضاء البشرية"

قلت في نفسي لو كان هناك مساحة أكبر في الجريدة لكانت تضاعفت التهم الكثيرة، فخالد الذي قبضوا عليه طالب جامعيّ، شاب مثقف و خلوق يعرفه كل أبناء الحيّ، مشكلته أنه لم يسكت على إهانة ابن المحافظ له و كما قال أهل الحارة "راح فيها" ...

خالد: بقي في السجن المركزي حتى فك النظام الحصار عنه... و أفرج عن جميع الشبيحة، و نُقل حينها خالد إلى السجن الجديد و لا زال محبوساً منذ ١٣ عاماً.. و يقولون بأنه أنهى حفظ و إعراب القرآن و حاز على ماجستير في اللغة العربية..
أبو عبدو جارنا: عاد إلى عمله و حفظ لسانه من بعدها و عندما قامت الثورة كان جرح رأسه و سكين حماته يدفعانه للابتعاد و التزام عبارة : الله يطفيا بنوره..
أنا: أدعو لخالد بأن يخرج من سجنه و لأبو عبدو أن يخرج من سجنه أيضاً..

موطن الشاهد: لا تقترب من سكينة حماتك.. ترتاح

هناك تعليقان (2):

  1. هاد واقع البلد أيام كانت أخته تطلع الساعة 3 بالليل
    ممنوع حدا يحكي و ممنوع حدا يفكر
    و اذا حدا شاف شرطي بالشارع عم يطلع فيه بيتذكر أي كلمة حاكيها عن الوضع المعيشي الزفت أو غيرو
    الهم شكراً عالنصيحة مشان سكينة حماته لأب عبدو 😅

    ردحذف